وتمضي الأعوام والقرون، ويُثبت أهل البيت عليهم السلام أنّهم أعلى وأسمى ممّا تصوّر البعض أو حاول أن يصوِّر للناس، فَهُم ليسوا لشيعتهم فقط، وليسوا للمسلمين فحَسْب.. هم أكبر من ذلك كلّه، هم لهذا العالم جميعاً، تعايشوا مع الخَلْق خيراً يفيض ونوراً من الهداية يشعّ، وأخلاقاً كريمة وَسِعَت البشرية بأجمعها.
ومن هنا لم نجد مُطّلعاً على سيرتهم بإنصاف إلاّ وأحبّهم وأحبّ أن يكون من تابعيهم، ذلك لأنّهم الهداة على دين الفطرة والحنيفيّة الطاهرة، ولأنّهم المتخلّقون بأخلاق الله تعالى من: الرحمة والعطف والشفقة، وإرادة الخير والصلاح والسعادة لجميع الناس، وقد سَعَوا من أجل ذلك وهم في غاية الطاعة لله جلّ وعلا، وغاية البذل والعطاء لهذا الخَلْق الظلوم لنفسه ولغيره.
فكان من أهل البيت سلام الله عليهم جهاد وتضحية وفداء، حتّى عانَوا ما عانَوا من الظَّلَمة العُتاة، ولا قَوا ما لاقَوا من الإيذاء والتضييق والإبعاد والحبس والتشريد، ثمّ القتل بالسيوف أو السموم، لِيُخفوا شخوصهم بين الملأ، ولِيُطفئوا نور الله بكلّ ما استطاعوا، فأبى الله تعالى إلاّ أن يُتمّ نوره فيهم، فها هُم أئمّة الهدى وأعلام التُّقى، ها هم ما يزالون الدعاةَ إلى الله والأدلاّءَ على مرضاة الله، ولم يزالوا قادة القلوب، فقد أحبّهم الناس من المشرق والمغرب، وأُعجب بهم أهل النصرانيّة واليهوديّة، وأذعن الجميع لفضائلهم ومناقبهم ومعالي شؤونهم، حتّى لم يصبر جورج جرداق المسيحي إلاّ أن يجرّد يراعه ليرسله مجلّداتٍ في فضائل عليّ بن أبي طالب، كذلك لم يصبر الشاعر المسيحيّ
بولس سلامة إلاّ أن يُطلق شاعريّته في ملاحم أدبيّة رائقة في خصائص أهل البيت ومظلومياتهم.. ويكثر المنصفون من المذاهب الأخرى والديانات الأخرى، حتّى يقف الزمان مرّةً أخرى عند كتاب طيّبٍ آخر تدوّنه أنامل مسيحي عشق نور سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين بن علي وابن فاطمة عليهم السلام، فسرّح قلبه مع قلمه ليكتب ( الحسين في الفكر المسيحيّ )، وإذا بـ « أنطون بارا » هذا المؤلّف الذي فاض محبّةً وإعجاباً بسبط النبيّ وريحانته، لم يصبر على أن يكتم مشاعره وما وصل إليه فكره من مفاهيم سامقة، فكتب ما يُريح به وجدانه وضميره؛ لأنّه فهم الحسين عليه لاسلام فهماً عميقاً من خلال مسيحيّته، وعَلِم أنّ المسيح والحسين صلوات الله عليهما هما رجلانِ إلهيّان؛ ولذا هما كانا في طريقٍ واحد، وهو طريق النور الربّانيّ وهداية البشرية، وطريق الرحيل إلى الله عزّوجلّ بالشهادة.
وإذا كان المسلم لا تتطابق عقيدته اليوم مع المسيحيّ، فإنّهما قد اتّفقا على أمورٍ كثيرة، ومهمّة، ويكفينا في ذلك شاهدان:
الأوّل ـ قرآني، ذلك قوله عزّ من قائل: وَلَتَجِدَنّ أقربَهم مَودّةً لِلَّذينَ آمَنُوا الَّذين قالُوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ مِنَهم قِسِّيسِينَ ورُهباناً وأنّهم لا يَستكبرون [ سورة المائدة:82 ]. نعم، أولئك هم غير مَن نرى اليوم من المستكبرين واللّؤماء الذين تحزّبوا لمحاربة الإسلام، وأهانوا كتاب الله.
والشاهد الثاني ـ روائي، فالنصارى كانوا أطوَعَ للإسلام وأهدى إليه، وهم كانوا على سابق علمٍ بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد أُخبِروا مِن قِبل السيّد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام بواسطة الحواريّين، وذلك بعد
ثمّ أُوصيك يا ابنَ مريم البِكْرِ البتول، بسيّد المرسَلين وحبيبي، فهو « أحمد » صاحبُ الجملِ الأحمر، والوجهِ الأقمر، المُشرقِ النور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيّي المتكرّم...
قال عيسى: إلهي، فمَن هو حتّى أُرضيَه فلَك الرضى ؟ قال:
ـ هو محمّد رسول الله إلى الناس كافّة، أقربُهم منّي منزلة، وأوجبُهم عندي شفاعةً..ثمّ يكون لعيسى ابن مريم عليهما السلام موقف مع حفيد رسول الله وخاتم أوصيائه المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك بعد ظهوره عليه السلام، فينزل المسيح عيسى من السماء وينصر المهديّ